أحدث المواضيع

3/recent/post-list

التغيير المنشود لبلدي

الكاتب: بودريعة نصر الدين 
منذ ما يربو عن عشر سنين وأنا أحاول جاهدا وبكل ما أوتيت من فكر وقوة ورغم عدم كوني في مراكز صنع القرار أن أُحْدِثَ تغييرا إيجابيا وجذريا في بلدي، تَغييرٌ يكون له صدى طيب في العالم بأسره وسمعة تجوب الآفاق ومثلا يُحْتذى به، فتملكني شغف كبير واعترتني غيرة شديدة وهوس قلّ نظيرا حتى أجد حلا للمعضلة الجزائرية والتي تتكرر في غالبية الوطن العربي، والمتعلقة بالتخلف عن ركب الحضارة وتذيلنا مراتب التصنيف وعدم القدرة على الارتقاء لمَصاف الدول المتقدمة ومنافستها، فلطالما تساءلت عن مكمن الخلل ولماذا ساءت أمورنا وتدهورت أحوالنا حتى آلت لما هي عليه اليوم، أَلِجُرْم اقترفته أيدينا، أم لعدم قدرتنا على مواكبة التطور السريع وانغلاقنا على ذاتنا ورفضنا للاندماج مع الاخر، أم هو واقع مفروض علينا ومؤامرة دنيئة حيكت ضدنا أم لغياب إرادة حقيقية ورغبة صادقة في التغيير، فإمكانية التغيير تبقى قائمة ما توفرت الإرادة الجامحة التي تخترق حدود المألوف، وترتفع حتى تبلغ عنان السماء.
فتصادمت في رأسي أفكار وتناطحت نظريات وتداخلت فيما بينها، يا ترى ما هو السبيل الأنجع لتحقيق إقلاع اقتصادي شامل، ونهضة علمية وحضارية، وما هي المرتكزات التي يجب أن يستند عليها أي تغيير منشود، وأي قطاع يجب أن نوليه الاهتمام الأكبر والقسط الأوفر من العناية، فتارة أرى أنه يجب أن نعتني بالقضاء وإصلاحه من جميع الشوائب والنقائص التي تعتريه من عدم استقلالية أو تسييس أو مساواة وغيرها، وتارة أنصرف وأنكب على الاهتمام بالاقتصاد والصناعة، والنماذج الاقتصادية الناجحة وأيضا التجارة الخارجية وأثرها في جلب العملة الصعبة وانتعاش الحركة الاقتصادية وجذب المستثمرين ورساميلهم، وأحيانا أخرى أنشغل بدراسة قطاع الخدمات والنشاطات السياحية وما يدور في فلكهما. 
وإذا بذاكرتي ترجع بي للوراء لسنوات خلت، عندما كنت أدرس في الصف الابتدائي، كان حينها والدي يشَّغِلُ المذياع صباحا فاستمع إلى صوت المذيع يعلنها مدوية: "أمة تقرأ، أمة لا تجوع ولا تستعبد".     كان كلام المذيع يعطيني حماسا قل نظيره، وسببا وجيها يدفعني للدراسة أملا في غد مشرق ومستقبل زاهر ففهمت بعد تفكير عميق وجهد جهيد أنه لا مفر ولا مناص من الاهتمام بالتعليم في كل مراحله وأطواره، فطريق التغيير مهما كان طويلا وشاقا فإنه يمر عبر مسلك واحد لا غير هو باب العلم والمعرفة، فإذا تحسَّن المستوى التعليمي تطورت كل نواحي الحياة، وازدهرت في جميع المجالات وشتى القطاعات، فبالتعليم وحده نحصل على الطبيب الماهر، والقاضي العادل، والمحامي الشرس، والاقتصادي الناجح، والسياسي المحنك، والمُنَظِرِ المستبصر والعالم الجليل، وهَلُمَ جَرًا جَرًا، وبالتالي تستقيم أمور الدولة، وينتشر الرخاء ويعم العدل ويستتب الأمن فيها ويعلو شأنها وتزيد حظوتها بين الأمم قاطبة. 
   ولتحقيق هذا الهدف السامي والرؤية الاستراتيجية من وجهة نظري، يجب أولا وقبل كل شيء توفير الحاضنة السياسية وتهيئة الظروف المواتية لطلب العلم في أعلى المستويات في هرم السلطة، بترك الميدان لأهل الاختصاص والمُتَمَرِسِينَ في الحقل التربوي والشق الأكاديمي لتبني رؤية واضحة المعالم ومخطط ذكي واستراتيجية فعالة ذات أهداف قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى للنهوض بالتعليم والبحث العلمي عبر تخصيص ميزانية كبيرة لهذا الغرض تكفل خلق مراكز إشعاع حضاري، وأقطاب نهضة فكرية، وتتيح التأطير الجيد للأساتذة والرفع من قيمتهم ومكانتهم الاجتماعية، ومستواهم المادي المعيشي، حتى يلعبوا الدور المنوط بهم بكل أريحية وسهولة فمن غير المعقول أن لا يجد معلم الأجيال ما يحفظ به ماء وجهه وكرامته، وهنا يحضرني رد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عندما طالبها المهندسون والأطباء في بلدها أن تساويهم مع المعلمين في الأجرة فردت عليهم قائلة: "كيف أساويكم مع من علمكم"، وهنا تظهر النظرة الثاقبة التي لا تعتبر التعليم قطاعا ثانويا وغير منتج بل هو الإنتاج بعينه.               كما لا يَخْفَ على عاقل أهمية استقرار المدرسة وتجنب كل ما من شأنه أن يعرقل التقدم الحسن لعملية التمدرس وسيرورتها الطبيعية، وذلك بالنأي بالمدرسة الجزائرية عن الصراعات الحزبية الضيقة والاختلافات الإيديولوجية، والسجالات السياسية والولاءات الحزبية والتوجهات العقائدية المختلفة والمصالح الشخصية، فلو نظرنا إلى تجربة سنغافورة نجد أن مطورها وباعث نهضتها لي كوان لم يفرض على شعبه أن يتعلم باللغة الصينية رغم كونه من العرقية الصينية، وما تمثله من شريحة واسعة في المجتمع، بل آثَرَ لغة محايدة وعالمية وهي اللغة الإنجليزية، لأنها لغة العلم الحديث، وبها استطاع تأسيس نظام تعليمي فعال وعصري، لذا وجب علينا التركيز على إرساء قواعد منظومة تعليمية ثرية وقوية لكل الأطوار والمستويات، والمراجعة الشاملة للمناهج والبرامج مع مطابقتها لتلك الموجودة في الدول الأكثر تطورا ورقيا وتلك التي تمتلك جودة تعليم معترف بها ، وكذا الاستفادة من تجارب الدول التي حققت وأحرزت نجاحات تُذْكَر ويمكن اللحاق بها ومُجَارَاتِها بعدما عانى تعليمها سابقا من انخفاض في المستوى، دون أن ننسى أهمية التعاقد مع منظمات دولية ذائعة الصيت، والقيام بعملية توأمة مع مدارس عالمية بهدف جلب خبراء أجانب لتكوين نظرائهم من الجزائريين، وأيضا تكثيف الدورات والبِعْثَات العلمية والمبادلات الثقافية للخارج، ولا بد كذلك من إدخال طرق التدريس الحديثة وتعميم استعمال الوسائل والوسائط التكنولوجية حتى يعتاد عليها الناشئة ويألفوها فلا تكون حاجزا وعائقا بينهم وبين عالم التكنولوجيا في المستقبل، ويَتَّأتى ذلك باستغلال اللوحات الذكية، والذكاء الصناعي، بغية خلق برامج وتطبيقات خاصة بالأطفال تساعدهم في الاستفاضة والتوسع في الإدراك كالحساب وعلوم الحاسوب، ومِنْ تَم َّعدم الاكتفاء بالتلقين الشفوي المحض بل يجب أن يتعداه إلى الجانب التطبيقي والاستكشافي، من خلال التجارب المخبرية والخرجات المدرسية بغية إشباع غريزة المعرفة لدى الطفل الصغير، فنقوم بتأمين 
رحلات إيكولوجية إلى مزارع نموذجية ومناطق طبيعية محمية لتعزيز الوعي البيئي، وأخرى ذات طابع جيولوجي لدراسة الوسط والصخور وأخرى للإلمام بمفاهيم التاريخ والجغرافيا كزيارة المتاحف ومختلف التضاريس التي تزخر بها الدولة، وزيارات ميدانية للمصانع للوقوف على عملية التصنيع عن كثب ومعاينتها، والاستعانة بالحصص الوثاقية والمحتويات السمعية البصرية لتعليم اللغات والثقافة، وتشجيع الأولاد على استغلال أوقات الفراغ في المطالعة والاستكشاف، ويأتي عامل خلق ورشات كورشة للفنون والرسم وورشة للتجارب والابتكار وورشة لمحاكاة مختلف المهن والتخصصات وضمان انخراط كل طفل فيما يستهويه، مع عدم إهمال الصحة البدنية والجسمية للطفل بتشكيل نواد رياضية تسمح باكتشاف المواهب وبتفجير الطاقات الكامنة وبالترويح عن النفس وبالتخفيف من ضغط الدراسة وكما يقال العقل السليم في الجسم السليم، وهنا تكمن أهمية التحضير النفسي والبيداغوجي الجيد للطفل لتأثيرهما البالغ على الجانب السلوكي والانعكاسي، ولهذا نجد بعض الدول قد ألغت الواجبات المنزلية نهائيا من برامجها كالسويد مثلا لأنها ترى فيها عقوبة للطفل وتقييدا له وهي حرمان له من حقه في اللعب، ودول أخرى ألغت إعادة السنة في المرحلة الأساسية، لأنه كفيل بتحطيم نفسية الطفل ومعنوياته؛ ويحول بينه وبين الرغبة في التعليم، والحديث عن إعادة السنة يقودنا إلى النظر في الزاوية المقابلة الخاصة بالتلاميذ النوابغ الذين أثبتوا جدارتهم وفاق ذكاؤهم المستوى المألوف والعادي، وعلى سبيل المثال نجد الطفل الهندي الأمريكي تانيشك آبراهام قد أنهى دراسته الجامعية في سن الحادية عشر متفوقا على العديد من الطلبة بولاية كاليفورنيا، مثل هؤلاء يجب الاعتناء بهم ومنحهم عناية خاصة، تمكنهم من الولوج للمراكز الحساسة، وتجسيد أفكارهم على أرض الواقع لخوض غمار التنافسية والاحتكاك بالمستوى العالمي.  


في الأخير بفضل تعليميي فُتِحَتْ لي آفاق ربما حُرِم منها كثيرون غيري، لكل أسبابه واختياراته وتوجهاته، ولكن أرغب في أن أشارك نظرتي وحبي للعلم والتعلم كل أبناء بلدي وأرد شيئا يسيرا من أفضال وطني عَلَيَّ، وأن أكون لَبنَة من لبنات البناء والتشييد، لتأسيس صرح حضاري وإنساني حَلُم بها الأجداد عبر مر الدهور وكر العصور دون تفرقة أو محاباة أو تمييز مهما كان نوعه، ولا يكون ذلك ممكنا إلا بتحرير المجتمع من أوهام الجهل والتخلف وبراثن الأفكار الهدامة المدمرة التي يقبع في ظلها، ومنح الأسبقية والأفضلية للعلماء والمفكرين والمُنَظِرِين والأخذ برأيهم والاهتمام بانشغالاتهم. 


ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.